نجوم لا تلتقي-قصص عالم حواء

be cultured
المؤلف be cultured

الفصل الأول: عندما تصطدم العوالم

في قلب دمشق القديمة، حيث تتراقص ظلال التاريخ مع أنفاس الحاضر، كانت ليلى تسير بخطوات متسارعة نحو الجامعة. شعرها الأسود ينساب كالحرير تحت حجابها الأبيض، وعيناها الخضراوان تحملان بريق الطموح والأحلام. كانت في عامها الأخير لدراسة الطب، وقد كرست حياتها بالكامل لهذا الهدف النبيل.

نجوم لا تلتقي-قصص عالم حواء
نجوم لا تلتقي-قصص عالم حواء


في الجانب الآخر من المدينة، كان كريم يقف أمام مرآة شقته الفخمة، يعدل ربطة عنقه بعناية. وريث إمبراطورية تجارية عريقة، شاب في الثامنة والعشرين، بعينين بنيتين عميقتين وابتسامة لا تفارق وجهه. لم يكن يعلم أن هذا اليوم سيغير مجرى حياته للأبد.

القدر، ذلك الساحر الخفي، حاك خيوطه في مستشفى الأطفال حيث كانت ليلى تقضي ساعات التدريب. دخل كريم المستشفى لزيارة ابن أخيه الصغير، وفي لحظة واحدة، التقت أعينهما عبر ممر طويل مليء بالضوء الأبيض.

توقف الزمن. توقف كل شيء.

"آسفة!" همست ليلى وهي تصطدم به عند منعطف الممر، وتتناثر أوراقها الطبية على الأرض.

انحنى كريم لمساعدتها في جمع الأوراق، وعندما لامست أصابعهما للحظة، شعر كلاهما بصدمة كهربائية تسري في عروقهما.

"لا بأس، الخطأ خطئي" قال بصوت مرتجف، وهو ينظر إلى عينيها الخضراوين اللتين بدتا له كبحيرتين من الزمرد.


الفصل الثاني: بذور الحب المحرم

مرت الأيام، وكريم لم يستطع أن ينسى تلك العيون الخضراء. بدأ يتردد على المستشفى بحجج متنوعة، آملاً في رؤيتها مرة أخرى. وليلى، رغم انشغالها بدراستها، وجدت نفسها تبحث عنه دون وعي في أروقة المستشفى.

في يوم مطير من أيام الشتاء، التقيا أخيراً في مقهى صغير قريب من الجامعة. جلسا يتحدثان لساعات، وكأن الكون قد اختفى من حولهما.

"أريد أن أصبح طبيبة أطفال" قالت ليلى وعيناها تتلألآن، "أريد أن أشفي الصغار وأرى الابتسامة تعود إلى وجوههم."

نظر إليها كريم بإعجاب صامت. "وأنا..." توقف للحظة، "أنا أدير شركة والدي، لكنني أحلم بشيء أكثر معنى."

"مثل ماذا؟"

"مثل بناء مستشفى للأطفال الفقراء. مستشفى مجاني بالكامل."

ابتسمت ليلى ابتسامة أضاءت وجهها. "هذا حلم جميل."

وهكذا، بدأت قصة حبهما تتفتح كوردة في الربيع، دون أن يعلما بالعاصفة التي تنتظرهما.


الفصل الثالث: اكتشاف الحقيقة المرة

لم يدم السر طويلاً. في ليلة باردة، عاد كريم إلى منزل العائلة ليجد والده حسام جالساً في المكتبة، وعلى وجهه تعبير جدي لم يره كريم من قبل.

"كريم، تعال. نحن بحاجة للحديث."

جلس كريم أمام والده، وقلبه يخفق بقوة.

"أعلم بشأن الفتاة" قال حسام بصوت هادئ لكنه حازم. "ليلى عبد الرحمن."

اتسعت عينا كريم. "كيف..."

"لا يهم كيف. المهم أن تعلم مَن هي حقاً." أخرج حسام ملفاً من درج مكتبه. "والدها أحمد عبد الرحمن كان شريكي في العمل منذ عشرين عاماً. خانني وسرق مليارات من الشركة ثم اختفى."

سقط الملف من يدي كريم وتناثرت الأوراق على الأرض. "هذا مستحيل..."

"دمر عائلتنا، كريم. تسبب في إفلاسنا وكدنا نفقد كل شيء. استغرق الأمر سنوات لنعيد بناء ما هدمه."

"لكن ليلى... ليلى ليست والدها!"

نظر إليه حسام بعينين باردتين. "دماء اللص تجري في عروقها. ولن أسمح لابني أن يرتبط بعائلة اللصوص."


الفصل الرابع: صدمة ليلى

في منزل متواضع في الحي الشعبي، كانت ليلى جالسة مع والدتها فاطمة تحتسيان الشاي، عندما رن جرس الباب. دخل رجل أنيق يرتدي بدلة سوداء، يحمل في عينيه برود الشتاء.

"أنا حسام الحكيم" قال بصوت رسمي، "والد كريم."

تجمدت ليلى في مكانها. أما فاطمة فقد شحب وجهها فجأة.

"أريد أن أتحدث مع ابنتك" تابع حسام.

"ليلى، يا بنتي..." همست الأم بصوت مرتجف، "هناك أشياء لم أخبرك بها عن والدك."

جلست ليلى وقد اضطرب عالمها تماماً، وهي تستمع لقصة لم تكن تتخيل وجودها. والدها الذي توفي وهي صغيرة، والذي ظنت أنه كان رجلاً شريفاً، اتضح أنه كان متورطاً في قضية احتيال كبيرة.

"لكن يا ماما..." دمعت عينا ليلى، "لماذا لم تخبريني؟"

"لأنك كنت صغيرة، ولأنني أردت أن تعيشي حياة طبيعية."

نظر حسام إلى ليلى نظرة قاسية. "ابني يحبك، لكن هذا الحب مستحيل. لن أسمح له بالزواج من ابنة أحمد عبد الرحمن."


الفصل الخامس: قرار مؤلم

التقى كريم وليلى في المكان الذي جمعهما لأول مرة، حديقة المستشفى الصغيرة. كانت الأوراق الصفراء تتساقط من الأشجار، كأنها دموع الخريف.

"سمعت ما حدث" قال كريم وصوته يرتجف. "والدي أخبرني بكل شيء."

نظرت إليه ليلى بعينين محمرتين من البكاء. "وأنا كذلك. أمي أخبرتني عن... عن والدي."

صمتا للحظات طويلة، كل منهما يحاول أن يجد الكلمات المناسبة.

"أحبك، ليلى" قال كريم أخيراً، "ولا يهمني ما فعله والدك. أنت لست هو."

"وأنا أحبك أيضاً" ردت بصوت مخنوق. "لكن... لكن كيف يمكن لحبنا أن يزدهر على أنقاض الألم والخيانة؟"

أمسك بيديها بلطف. "سنواجه العالم معاً. سنثبت لهم أن الحب أقوى من الماضي."

لكن ليلى هزت رأسها بحزن. "لا، كريم. هذا سيدمر عائلتك أكثر. والدك محق... أنا أحمل اسم رجل خان الأمانة."

"اسمعيني..."

"لا." قطعت عليه كلامه بحزم رغم دموعها. "أحياناً الحب يعني التضحية. أحياناً نحب شخصاً بما يكفي لنتركه."


الفصل السادس: المحاولة الأخيرة

لم يستطع كريم القبول بهذا القرار. قضى أياماً يفكر في حل، في طريقة لكسر هذا الحاجز اللعين الذي يقف بينهما. أخيراً، قرر أن يواجه والده بطريقة مختلفة.

"أبي" قال وهو يدخل مكتب حسام، "أريد أن أشتري حصة ليلى من ذنب والدها."

نظر إليه حسام بدهشة. "ماذا تقصد؟"

"كم خسرت بسبب أحمد عبد الرحمن؟ سأعيد كل قرش للعائلات التي تضررت من أفعاله. سأبيع حصتي في الشركة إذا لزم الأمر."

"كريم، أنت مجنون!"

"مجنون بحب امرأة نقية القلب، طاهرة الروح. مجنون بحب امرأة تريد أن تشفي الأطفال وتصنع الخير في العالم." وقف كريم أمام والده. "أعطني فرصة واحدة. دعني أثبت لك أن ليلى مختلفة."


الفصل السابع: التحدي

وافق حسام على صفقة غريبة. أعطى كريم عاماً واحداً ليثبت أن ليلى تستحق اسم عائلة الحكيم. عام واحد لتمحو العار الذي لطخ اسم والدها.

"إذا استطاعت أن تعيد للمجتمع ضعف ما سرقه والدها، إذا أثبتت أنها تحمل شرفاً يغسل عار الماضي، فسأوافق على زواجكما."

كان التحدي صعباً، شبه مستحيل. لكن ليلى قبلته دون تردد.

بدأت بالعمل التطوعي في المستشفيات الحكومية، تقضي كل دقيقة فراغ في علاج الفقراء مجاناً. فتحت عيادة صغيرة في الحي الشعبي، تعالج الأطفال بأقل الأسعار أو مجاناً للمحتاجين.

كريم، من جانبه، بدأ في جمع التبرعات لبناء مستشفى الأطفال الذي حلما به معاً. باع سيارته الفخمة، وباع مجوهراته، وكرس كل ما يملك لهذا الحلم.


الفصل الثامن: العاصفة

لكن العالم لم يكن يريد أن يراهما معاً. بدأت الشائعات تنتشر في المجتمع المحافظ. "ابن الأثرياء يريد أن يتزوج ابنة اللص." "فتاة تستغل حب شاب ثري لتمحو عار عائلتها."

تعرضت ليلى للإهانات في الجامعة، وفي المستشفى، وحتى في الشارع. نساء من عائلات محترمة كن ينظرن إليها بازدراء، رجال كانوا يهمسون عند مرورها.

"أتظنين أن الحب سيمحو الخطيئة؟" قالت لها إحدى زميلاتها بخبث. "أتظنين أن عائلة الحكيم ستقبل بك حقاً؟"

عادت ليلى إلى منزلها تلك الليلة محطمة القلب، تبكي في حضن أمها.

"يا بنتي" قالت فاطمة وهي تمسح دموع ابنتها، "إذا كان هذا الطريق يؤلمك كثيراً، فربما يجب أن تتركيه."

"لا يا ماما" ردت ليلى بعزيمة مشتعلة في عينيها، "سأثبت لهم جميعاً أنني أستحق حبه. سأثبت أن قلبي نقي رغم كل شيء."


الفصل التاسع: النور في الظلام

مع مرور الشهور، بدأت جهود ليلى تؤتي ثمارها. أصبحت محبوبة في الحي الشعبي، "الدكتورة الملاك" كما أطلقوا عليها. أطفال كثيرون شُفوا على يديها، عائلات فقيرة وجدت فيها المنقذ.

كريم، من جانبه، نجح أخيراً في جمع التبرعات الكافية لبناء مستشفى الأطفال. كان المشروع يتقدم بسرعة، ومعه كان حلمهما المشترك يقترب من التحقق.

في ليلة شتوية باردة، جاء رجل عجوز إلى عيادة ليلى يحمل حفيده المريض. الطفل كان يحتضر، وكل المستشفيات رفضت استقباله لأن العائلة لا تملك المال.

عملت ليلى طوال الليل، حاربت الموت بكل ما تملك من علم ومهارة. وفي الفجر، فتح الطفل عينيه وابتسم.

بكى الجد من الفرح، وانتشر الخبر في الحي كالنار في الهشيم. "الدكتورة ليلى أنقذت الطفل!" "أنها ملاك من السماء!"


الفصل العاشر: الاختبار الأصعب

قبل أسابيع قليلة من انتهاء العام المحدد، حدث ما لم يكن أحد يتوقعه. وصلت رسالة مجهولة إلى حسام تحتوي على معلومات صادمة: "أحمد عبد الرحمن ما زال حياً، يعيش في الخارج تحت اسم مستعار."

انهار عالم ليلى من جديد. الأب الذي ظنت أنه مات وهي صغيرة، كان حياً ولم يعد إليها أبداً.

"لماذا يا ماما؟" بكت في حضن فاطمة. "لماذا تركنا؟ لماذا لم يعد؟"

"لا أعلم يا حبيبتي. لا أعلم."

علم كريم بالأمر وجاء إليها فوراً. وجدها جالسة في حديقة المستشفى، تنظر إلى النجوم بعيون فارغة.

"ليلى..."

"هو حي، كريم" قالت بصوت مكسور. "والدي حي ولم يعد إلينا أبداً. تركنا نعيش في الفقر والعار."

جلس بجانبها وأمسك بيدها. "هذا لا يغير شيئاً. لا يغير حبي لك."

"لكنه يغير كل شيء. كيف أواجه والدك الآن؟ كيف أخبره أن الرجل الذي دمر عائلتكم ما زال حراً طليقاً؟"


الفصل الحادي عشر: المواجهة الأخيرة

قررت ليلى أن تواجه حسام بنفسها. ذهبت إلى منزل عائلة الحكيم في مساء بارد، قلبها يخفق بقوة.

"سيد حسام" قالت وهي تقف أمامه بكل الكرامة التي تملكها، "جئت لأعيد إليك شيئاً."

أخرجت من حقيبتها مبلغاً كبيراً من المال. كل ما جمعته من عملها طوال العام.

"هذا كل ما أملك. أعلم أنه لا يساوي ما خسرتموه، لكنه كل ما استطعت جمعه. خذه وأخبر كريم أن ينساني."

نظر إليها حسام بدهشة. "لماذا؟"

"لأن والدي ما زال حياً. لأنه لم يعد ليواجه أخطاءه أو يعتذر عما فعل. لأنني لا أستطيع أن أمحو عاراً لم أرتكبه ولكنني أحمله."

صمت حسام طويلاً، ثم قال: "اجلسي."


الفصل الثاني عشر: الكشف

"قبل عشرين عاماً" بدأ حسام يتحدث، "كان أحمد عبد الرحمن أفضل أصدقائي. كنا كالأخوين. ولكن الطمع أعماه."

توقف للحظة، ثم تابع: "ما لا تعرفينه أنه لم يسرق المال لنفسه. اكتشفت لاحقاً أنه سرقه ليدفع تكاليف علاج زوجته من السرطان."

اتسعت عينا ليلى. "ماذا؟"

"والدتك كانت مريضة، محتاجة لعملية جراحية معقدة وعلاج مكلف جداً. أحمد لم يجد مصدراً آخر للمال، فسرق من الشركة."

"لكن... لكن ماما لم تخبرني..."

"لأنها لا تعلم. أحمد لم يخبرها أبداً من أين جاء بالمال للعلاج. وبعد أن شُفيت، اكتُشف الأمر وهرب خوفاً من السجن."

دمعت عينا ليلى. "إذن... إذن هو لم يفعلها طمعاً؟"

"لا. فعلها حباً. حباً أعمى دفعه لارتكاب جريمة، لكنه كان حباً مع ذلك."


الفصل الثالث عشر: قرار حسام

نظر حسام إلى ليلى التي كانت تبكي بصمت، وقال: "لسنوات ظننت أن أحمد خانني من أجل المال. كرهته، وكرهت كل من يحمل اسمه. لكن مشاهدتك طوال هذا العام..."

توقف وابتسم ابتسامة حزينة. "رأيتك تضحين بكل شيء من أجل حب ابني. رأيتك تعملين ليل نهار لتساعدي الفقراء. رأيت فيك روح والدك الطيبة، لا أخطاءه."

"سيد حسام..."

"انتظري، دعيني أكمل." رفع يده. "العام لم ينته بعد، لكنك أثبتِ بالفعل أنك تستحقين اسم عائلتنا. ليس لأنك محوت عار والدك، بل لأنك أثبتِ أن الحب الحقيقي يستطيع أن يتجاوز كل العقبات."

وقف حسام وذهب إلى مكتبه، عاد يحمل أوراقاً رسمية.

"هذه وثائق تبرؤك من كل الديون المترتبة على والدك. من اليوم، أنت حرة من عبء الماضي."


الفصل الرابع عشر: بداية جديدة

بعد أسابيع قليلة، تم افتتاح مستشفى الأطفال الخيري. كان حفلاً بسيطاً لكنه مؤثر، حضره أطفال من الحي الشعبي مع عائلاتهم، وأطباء متطوعون، وأعضاء من المجتمع المحلي.

وقفت ليلى أمام المستشفى الجديد، ترتدي معطفها الأبيض، والدموع تلمع في عينيها. كان هذا هو الحلم الذي بدأ كل شيء.

"دكتورة ليلى!" نادى طفل صغير وجرى نحوها. كان نفس الطفل الذي أنقذته في تلك الليلة الباردة.

احتضنته بحنان. "كيف حالك يا صغيري؟"

"بخير! جدي يقول أنك ملاك!"

ابتسمت ليلى وهي تداعب شعره. نظرت حولها فوجدت كريم يقف عند المدخل، يرتدي بدلة أنيقة ويحمل باقة ورود بيضاء.

اقترب منها ببطء، وقال أمام الجميع: "دكتورة ليلى عبد الرحمن، هل تقبلين أن تكوني شريكتي في الحياة كما كنت شريكتي في هذا الحلم؟"

جثا على ركبة واحدة وأخرج خاتماً بسيطاً لكنه جميل.

"نعم" همست بصوت مخنوق بالدموع، "ألف نعم."


الفصل الخامس عشر: الحب ينتصر

بعد ستة أشهر، في حفل زفاف بسيط لكنه مليء بالحب والفرح، اجتمعت عائلتان كانتا في يوم من الأيام عدوتين. حسام، الذي كان يقف بجانب والد كريم، ابتسم وهو يرى ابنه يرقص مع زوجته الجديدة.

فاطمة، والدة ليلى، جلست في الصف الأول تبكي من الفرح. "زوجي الغالي" همست وهي تنظر إلى السماء، "ابنتك تزوجت رجلاً طيباً. أتمنى لو كنت هنا لتراها."

في زاوية الحفل، وقف رجل عجوز يراقب من بعيد. لم يعرفه أحد، لكن دموعه كانت تحكي قصة كاملة. أحمد عبد الرحمن عاد أخيراً، لكنه اختار أن يشاهد فرحة ابنته من بعيد، دون أن يعكر صفو يومها السعيد.


الفصل السادس عشر: سنوات لاحقة

مرت خمس سنوات. أصبح مستشفى الأطفال الخيري واحداً من أفضل المستشفيات في المنطقة. ليلى، التي أصبحت الآن الطبيبة الرئيسية، كانت محبوبة من الجميع.

كريم وليلى رُزقا بطفلين جميلين: أحمد على اسم جده، ونور التي أضاءت حياتهما.

في يوم من الأيام، وبينما كانت ليلى تفحص طفلاً صغيراً في المستشفى، دخلت الممرضة وقالت: "دكتورة، هناك رجل عجوز يريد أن يراك. يقول أنه... أنه والدك."

توقف قلب ليلى للحظة. بعد كل هذه السنوات، قرر والدها أخيراً أن يواجهها.

دخل أحمد إلى مكتبها، وقد شاب شعره وتجعد وجهه. وقف أمامها صامتاً، لا يعرف من أين يبدأ.

"أبي" قالت ليلى بصوت مرتجف.

"سامحيني" همس، "سامحيني على كل شيء."


الفصل السابع عشر: المسامحة

احتضنت ليلى والدها وهي تبكي. "أبي، لماذا تركتنا؟ لماذا لم تعد؟"

"كنت خائفاً" اعترف أحمد. "خائفاً من السجن، خائفاً من أن أجلب لكما العار أكثر مما جلبت."

"لكنك تركتنا نعيش في الألم كل هذه السنوات!"

"أعلم، وهذا ما يقتلني كل يوم." نظر إليها بعيون مليئة بالندم. "راقبتك من بعيد كل هذه السنوات. رأيتك تكبرين وتصبحين طبيبة مميزة. رأيت زفافك، ورأيت أطفالك. كنت فخوراً بك، لكنني لم أجرؤ على الاقتراب."

جلست ليلى أمام والدها، وبين الدموع والألم، بدأت تحكي له عن رحلتها. عن الحب المستحيل الذي أصبح ممكناً، عن التحديات التي واجهتها، عن كيف أن حبها لكريم علمها معنى التضحية والإصرار.

"هل... هل تسامحينني؟" سأل أحمد بصوت خافت.

نظرت إليه ليلى طويلاً، ثم قالت: "أبي، تعلمت من زوجي أن الحب الحقيقي يعني المسامحة. نعم، أسامحك. لكن بشرط واحد."

"أي شرط؟"

"أن تعود إلى حياتنا. أن تعرف أحفادك. أن تساعدني في هذا المستشفى لتكفر عن أخطاء الماضي."


الفصل الثامن عشر: الدائرة تكتمل

في مساء ذلك اليوم، عادت ليلى إلى المنزل لتجد كريم يلعب مع الأطفال في الحديقة. اقتربت منه وأخبرته بما حدث.

"والدي عاد" قالت وهي تحتضنه.

"وكيف تشعرين؟"

"مرتبكة، حزينة، سعيدة... كل المشاعر في آن واحد."

ابتسم كريم وقبّل جبينها. "سنواجه هذا معاً، كما واجهنا كل شيء."

في اليوم التالي، جاء أحمد إلى المستشفى ليبدأ العمل كمتطوع. كان منظراً مؤثراً: الرجل الذي هرب من ماضيه يحاول الآن أن يصلح ما أفسده.

حسام، الذي علم بعودة أحمد، قرر أن يواجهه بنفسه. التقى الرجلان في مكتب المستشفى، وللمرة الأولى منذ عشرين عاماً، نظر كل منهما في عيني الآخر.

"أحمد" قال حسام بصوت هادئ.

"حسام" رد أحمد، وعيناه مليئتان بالندم. "جئت لأعتذر."

"الاعتذار وحده لا يكفي."

"أعلم. لهذا قررت أن أقضي ما تبقى من حياتي في خدمة هذا المستشفى. سأعمل دون أجر، سأعطي كل ما أملك لهذا المكان."

نظر إليه حسام طويلاً، ثم مد يده. "إذن فلنبدأ من جديد."


الفصل التاسع عشر: إرث الحب

مرت سنوات أخرى، وأصبح المستشفى مركزاً طبياً مشهوراً يأتي إليه المرضى من كل أنحاء البلاد. أحمد، الذي أصبح يُعرف باسم "العم أحمد"، كان محبوباً من الأطفال والعائلات.

كريم وليلى، اللذان أصبحا الآن في الأربعينيات من عمرهما، كانا مثالاً يُحتذى به في الحب والتفاني. قصة حبهما أصبحت أسطورة تُروى في أوساط الطلاب والأطباء الشباب.

في يوم من الأيام، جاءت فتاة شابة إلى المستشفى تطلب العمل كممرضة متطوعة. كان اسمها سارة، وكانت من عائلة فقيرة.

"لماذا تريدين العمل هنا؟" سألتها ليلى.

"لأنني سمعت قصتك، دكتورة ليلى" ردت سارة بعيون مليئة بالأمل. "قصة حب انتصر على كل العقبات. هذا يعطيني الأمل أن أحقق أحلامي أنا أيضاً."

ابتسمت ليلى. "وما هي أحلامك؟"

"أن أصبح طبيبة مثلك. وأن أجد حباً حقيقياً مثل حبك لزوجك."


الفصل العشرون: الجيل الجديد

أحمد ونور، طفلا كريم وليلى، كبرا وأصبحا شابين مميزين. أحمد اختار دراسة الطب مثل والدته، بينما اختارت نور دراسة إدارة الأعمال لتساعد في إدارة المستشفى.

في يوم تخرج أحمد من كلية الطب، وقف كريم وليلى فخورين بابنهما. كان حفل التخرج في نفس القاعة التي تعارفا فيها لأول مرة منذ سنوات طويلة.

"أتذكرين هذا المكان؟" همس كريم في أذن ليلى.

"كيف يمكنني أن أنسى؟ هنا بدأت قصتنا."

"وهنا تستمر من خلال أطفالنا."

نظرت ليلى إلى ابنها الذي كان يتلقى شهادته، وقالت: "أتمنى أن يجد حباً جميلاً مثل حبنا."

"سيجد، أنا متأكد. الحب الحقيقي دائماً يجد طريقه."


الفصل الحادي والعشرون: امتحان جديد

لكن الحياة لم تكن تنوي أن تترك عائلة كريم وليلى في سلام دائم. في إحدى الليالي، تلقت ليلى مكالمة طارئة من المستشفى. كان هناك حادث كبير، وعشرات الأطفال الجرحى يحتاجون للعلاج العاجل.

هرعت إلى المستشفى لتجد مشهداً مروعاً. أطفال كثيرون مصابون، وفريق المستشفى يعمل بأقصى طاقته. لكن الحالات كانت أكثر من إمكانياتهم.

"نحن بحاجة لمساعدة!" صرخت إحدى الممرضات.

في تلك اللحظة، وصل كريم مع فريق من الأطباء المتطوعين من مستشفيات أخرى. كان قد استطاع، بعلاقاته وتأثيره، أن يجمع أفضل الأطباء في المدينة في ساعات قليلة.

عمل الجميع طوال الليل. ليلى وكريم، جنباً إلى جنب، ينقذان الأرواح كما فعلا دائماً. وحتى أحمد الجد، رغم تقدم سنه، ساعد في تنظيم العائلات القلقة وتهدئة الأطفال.


الفصل الثاني والعشرون: المعجزة

مع الفجر، تم إنقاذ كل الأطفال. لم تُفقد روح واحدة. كان إنجازاً طبياً مذهلاً، لكن الأهم من ذلك كان الروح التي جمعت كل هؤلاء الأطباء والممرضين والمتطوعين.

وقفت ليلى في فناء المستشفى، منهكة لكنها سعيدة. اقترب منها كريم وأحاطها بذراعيه.

"فخور بك" همس في أذنها.

"ولنا" ردت. "فخورة بما بنيناه معاً."

نظرا معاً إلى المستشفى الذي أصبح أكثر من مجرد مبنى. أصبح رمزاً للأمل، مكاناً حيث الحب والعلم يجتمعان لصنع المعجزات.

جاء إليهما أحمد الشاب، ابنهما، وعلى وجهه ابتسامة فخر.

"أمي، أبي، أريد أن أخبركما بشيء."

"ما هو يا حبيبي؟"

"قررت أن أتخصص في جراحة القلب للأطفال. أريد أن أكمل رسالتكما."

احتضنته ليلى بدموع الفرح. "قلبك الطيب سيشفي قلوب كثيرة، يا بني."


الفصل الثالث والعشرون: دورة الحياة

مرت السنون، وأصبح أحمد طبيباً مشهوراً في جراحة قلوب الأطفال. تزوج من سارة، الممرضة التي جاءت متطوعة منذ سنوات، وأصبحت طبيبة أطفال ماهرة.

نور، من جانبها، أصبحت مديرة تنفيذية ناجحة للمستشفى، وتزوجت من مهندس شاب يساعدها في توسيع المشروع لمناطق أخرى.

كريم وليلى، اللذان أصبحا الآن في الستينيات، كانا يشاهدان بسعادة كيف تنمو شجرة العائلة التي زرعاها بحبهما.

في يوم من الأيام، وبينما كانا يجلسان في حديقة المستشفى حيث التقيا لأول مرة، قال كريم:

"ليلى، هل تندمين على شيء في حياتنا؟"

فكرت للحظة، ثم قالت: "لا، حبيبي. كل الألم الذي مررنا به كان يستحق كل هذا الحب وكل هذا الخير الذي صنعناه."

"حتى لو كان حبنا مستحيلاً في البداية؟"

ابتسمت وأمسكت بيده المتجعدة: "خاصة لأنه كان مستحيلاً. الأشياء المستحيلة هي التي تستحق القتال من أجلها."


الفصل الرابع والعشرون: الوداع

مرت سنوات أخرى هادئة وسعيدة. لكن الزمن، ذلك الساحر القاسي، بدأ يأخذ حقه من الجيل الأكبر.

أحمد الجد، والد ليلى، توفي بسلام في نومه، بعد أن قضى السنوات الأخيرة من حياته في خدمة المستشفى والتكفير عن أخطاء الماضي. حضر جنازته كل من عرفه في المستشفى، من الأطباء إلى المرضى.

حسام أيضاً رحل بعد ذلك بسنة، وقد كان فخوراً بالإرث الذي تركه: مستشفى ينقذ مئات الأطفال سنوياً، وعائلة متحابة تحمل رسالة الخير.

وقف كريم وليلى أمام قبري والديهما، يحملان باقات من الورود البيضاء.

"أشكرك أبي" همس كريم، "لأنك علمتني في النهاية أن الحب أقوى من الكراهية."

"وأشكرك أبي" همست ليلى، "لأنك عدت وأعطيتني فرصة المسامحة."


الفصل الخامس والعشرون: الإرث الخالد

في الذكرى الثلاثين لتأسيس المستشفى، أقيم حفل كبير حضره مئات من الأطباء والمرضى السابقين وعائلاتهم. كان حفلاً مؤثراً، حيث شهد الجميع على كيف أن حباً بدأ مستحيلاً أصبح مصدر خير لآلاف الناس.

وقف أحمد الشاب، الذي أصبح الآن مدير المستشفى الطبي، ليلقي كلمة:

"أصدقائي، نحن نحتفل اليوم ليس فقط بمستشفى، بل برسالة. رسالة مفادها أن الحب الحقيقي لا يعرف المستحيل. والداي علماني أن العقبات ليست لتوقفنا، بل لتجعلنا أقوى."

نظر إلى كريم وليلى اللذين كانا يجلسان في الصف الأول، وقال:

"شكراً لكما، لأنكما علمتماني أن الحب الحقيقي هو الذي يبني، لا الذي يهدم."


الخاتمة: نجوم تلتقي أخيراً

في ليلة صافية من ليالي الربيع، جلس كريم وليلى على سطح منزلهما، ينظران إلى النجوم كما فعلا في أول لقاء لهما.

"ليلى" قال كريم بصوت هادئ، "أتذكرين عندما قلت لي ذات مرة أننا مثل نجمين لا يمكن أن يلتقيا؟"

ابتسمت وهي تسند رأسها على كتفه: "أذكر."

"كنت مخطئة. نحن لم نكن نجمين منفصلين، بل كنا نجماً واحداً انقسم إلى نصفين، وأخيراً اجتمعنا مرة أخرى."

"وأصبحنا كوكبة كاملة" أضافت وهي تشير إلى أطفالهما وأحفادهما الذين كانوا يلعبون في الحديقة أسفلهما.

نظرا معاً إلى المستشفى الذي يضيء في المسافة، حيث الأطباء ما زالوا يعملون، ينقذون الأرواح ويصنعون المعجزات.

"حبيبي" همست ليلى، "هل تعلم ما هو أجمل شيء في قصتنا؟"

"ما هو؟"

"أنها لم تنته. ستستمر من خلال أطفالنا وأحفادنا، ومن خلال كل طفل يُشفى في هذا المستشفى."

أمسك كريم بيدها وقبلها بحنان: "إذن، هذه ليست نهاية قصتنا، بل بداية إرث سيدوم للأبد."

وتحت ضوء النجوم، احتضن الحبيبان بعضهما، وقد أدركا أن الحب الحقيقي لا يموت أبداً، بل يتحول إلى نور يضيء طريق الآخرين.

وهكذا انتهت قصة حب بدأت مستحيلة، لكنها أثبتت أن مع الإصرار والتضحية والإيمان، يمكن للحب أن ينتصر على كل شيء، وأن يترك وراءه إرثاً من الخير يدوم إلى الأبد.


النهاية

"أحياناً الحب لا يعني أن نحصل على من نحب، بل أن نحب بما يكفي لنصنع معاً شيئاً أجمل من الحب نفسه."


ملاحظة للقراء: هذه القصة مهداة إلى كل من يؤمن أن الحب الحقيقي قادر على تخطي كل العقبات، وأن أجمل القصص هي التي تبدأ بكلمة "مستحيل" وتنتهي بكلمة "معجزة".

تعليقات

عدد التعليقات : 0